
اكتمال الأسطورة الناقصة.. مارادونا يحطم بيليه ويسبق ميسي

كان الشتاء الأرجنتيني قاسيًا على عائلة تكدح في ضواحي بوينس آيرس، تعيش في بيت من الألواح المعدنية في فيا فيوريتو، بسقف يرشح، يقف تحته طفل يدعى “دييجو أرماندو مارادونا”، يركل كرة قماشية صنعها بيده.
سيحمل هذا الطفل لاحقا، قضية أكبر من جسده، وهي إثبات بأن العبقرية يمكن أن تولد بلا وساطة، بلا ضمان اجتماعي، وأن تصبح حكاية شعبية مروية بلهجات الحارات.
من هذا الطين، خرج القصير الذي سيطول عنان السماء، ومن هذا البرد، خرج دفء اسمه المتعة.. لم يكن مارادونا مجرد موهبة، كان مشروع ثورة صغيرة ضد روتين اللعبة.
بيسراه كان يخلق زوايا للتمرير غير موجودة في المناهج، يبطئ الزمن ثم يسرعه، يراوغ المساحة كما يراوغ الخصم.
عندما ارتدى قميص الأرجنتين في مونديال 1986، بدا كأنه يحمل وطنا كاملا على كتفيه.
هناك، في مكسيكو، صار الكوكب ملعبا يدور حوله، نال الكرة الذهبية للمونديال، وتصدر قوائم صناعة الفرص والأهداف، وتلقى تدخلات عنيفة أكثر مما يحتمل جسد واحد.
عبقري
في مطلع الثمانينيات، كان مارادونا يقف على عتبة الخلود، فتى من فيا فيوريتو تحول إلى رمز عالمي، حمل آمال شعب بأكمله وحقق المستحيل.
في فريق سيبوليتاس الصغير، قاد زملاءه إلى 136 مباراة دون هزيمة، مسجلا أهدافا وصانعا أحلاما بقدمه اليسرى السحرية.
فرانسيس كورنيخو، المدرب الذي اكتشفه، قال مندهشا: “عندما جاء دييجو إلى أرسينتوس جونيورز للتجارب، صعقت من موهبته ولم أستطع تصديق أنه في الثامنة فقط، في الواقع، طلبنا بطاقة هويته للتأكد، لكنه قال إنها ليست معه، تأكدنا أنه يخدعنا لأن جسده كان كطفل، لكنه يلعب كبالغ”.
بداية الشقوق في الكريستال
وصل مارادونا إلى برشلونة عام 1982 بصفقة قياسية بلغت 5 ملايين جنيه إسترليني، كان العالم ينتظر أن يرى السحر الأرجنتيني يتفتح في معقل الكتلان، لكن القدر كان يحيك خيوط مأساة لم يتوقعها أحد.
في موسمه الأول، أحرز مارادونا 23 هدفا في 35 مباراة وفاز بكأس الملك ولقب الليجا، وأصبح أول لاعب في برشلونة، ينتزع تصفيق جماهير ريال مدريد في البرنابيو، إنجاز لم يتكرر إلا مع رونالدينيو عام 2005.
لكن الشيطان كان يكمن في التفاصيل.. في برشلونة بدأ مارادونا، تعاطي الكوكايين عام 1983، كان الضغط هائلا، والتوقعات فلكية، والشعور بالغربة يقتله ببطء.
الإصابة الوحشية التي تلقاها من أندوني جويكويتشيا “جزار بيلباو” كسرت كاحله وروحه معا.
الجنة والجحيم
عندما وصل مارادونا إلى نابولي عام 1984، لم يكن مجرد لاعب كرة قدم ينضم إلى فريق، بل كان قائد ثورة شعبية صامتة في مدينة طالما ازدرتها إيطاليا الشمالية.
“المدينة تفتقر إلى عمدة، ومنازل، ومدارس، وحافلات، ووظائف، وصرف صحي، لكن لا شيء من هذا مهم لأن لدينا مارادونا”.. هكذا كتبت إحدى الصحف المحلية.
في نابولي، تفتحت عبقرية مارادونا كزهرة نادرة في صحراء قاحلة. سجل 115 هدفا في 259 مباراة، وقاد النادي إلى أول لقبين في الدوري الإيطالي في تاريخه (1987 و1990)، وفاز بكأس الاتحاد الأوروبي عام 1989، وأصبح معشوق الشعب.
لكن المدينة التي أحبته، قتلته ببطء، نابولي كانت حوض سمك ذهبي مكتظ، صاخب، حار، وعيون المافيا النابوليتانية “الكامورا” كانت ترصده منذ البداية.
https://www.youtube.com/watch؟v=pwlvle1yutm
روتين قاتل
روتين مارادونا الأسبوعي في نابولي، كان مدمرا ومرعبا، يخوض مباراة الأحد في الدوري الإيطالي، ثم يقضي ليل الأحد إلى صباح الأربعاء في تعاطي الكوكايين مع زبائن الكامورا، وصباح الأربعاء إلى مساء السبت يمارس التطهير عبر التعرق المكثف لإخراج المخدرات من جسده، ليعود يوم الأحد للعب مباراة جديدة.. هذا النمط المدمر استمر لسنوات!
في أبريل/نيسان 1991، أظهرت عينة الدم، آثار الكوكايين، وتعرض لإيقاف غير مسبوق لمدة 15 شهرا، وغادر مارادونا، نابولي مدحورا، منكسرا، مدانا بالسجن 14 شهرا مع وقف التنفيذ.
غيتي الصور
الملاك الجريح
في كأس العالم 1990، كان مارادونا يلعب بكاحل مكسور وظفر ملتهب، ورغم الألم الرهيب، قاد الأرجنتين إلى النهائي.
لكن الوجع والإنهاك النفسي كانا واضحين، خسر النهائي أمام ألمانيا الغربية بهدف نظيف، وبكى كطفل مكسور القلب.
النهاية المأساوية
في مونديال الولايات المتحدة 1994، بدا مارادونا وكأنه شبح من الماضي، يحاول استعادة مجده، لعب مباراتين فقط قبل أن يطرد لتعاطي الإفيدرين.
الأرجنتين خرجت من دور 16 أمام رومانيا، والحلم انتهى إلى الأبد.
ماذا لو؟
في عالم مواز، لو اختار مارادونا، طريق الانضباط والاحترافية، لكانت قصة كرة القدم ستكتب بحروف مختلفة تماما.
لو لم يسقط مارادونا في براثن الكوكايين في برشلونة عام 1983، ولو لم تدمر المخدرات جسده وروحه في نابولي، لربما كان العالم شاهدا على أعظم مسيرة في تاريخ الرياضة.
مارادونا المنضبط كان سيستمر في قمة العطاء حتى سن الأربعين، بدلا من الانهيار المبكر الذي عاشه.
مسيرته الحقيقية انتهت فعليا عام 1991 عندما أوقف بسبب الكوكايين وهو في سن 31 عامًا، عمر يعتبر ذروة النضج لأي لاعب كرة قدم.
بالانضباط، كان سيلعب 9 سنوات إضافية في أعلى المستويات، مما يعني حوالي 250 – 300 مباراة إضافية وما لا يقل عن 120 هدفا زائدا في مسيرته مع الأندية التي انتهت بـ311 هدفا في 680 مباراة.
برشلونة
في السيناريو البديل، مارادونا لم يكن ليترك برشلونة بعد موسمين عاصفين.
الإصابة الوحشية التي تلقاها من جويكويتشيا، في سبتمبر/أيلول 1983، والتي كسرت كاحله الأيسر وأبعدته 4 أشهر، لم تكن لتؤثر بنفس القسوة، على لاعب منضبط يعتني بجسده.
مارادونا المنضبط لو صلح جسده واستقر باله، وبقي في برشلونة 5 سنوات إضافية، ربما كُنّا سنحكي اليوم عن “أسطورة برشلونة الأولى” قبل روماريو ورونالدو ورونالدينيو وميسي، وربما حمل النادي إلى أمجاده الأوروبية قبل موعدها بعقد كامل.
فالعبقرية التي أظهرها في 52 مباراة التي لعبها مع البارسا، وأحرز فيها 38 هدفا رغم الإصابات والمشاكل، كانت ستمتد على مدى عقد كامل.
https://www.youtube.com/watch؟v=yv_jvgdi34
نابولي
وصول مارادونا إلى نابولي عام 1984 كان نقطة تحول في تاريخ المدينة والنادي.
في الواقع، لعب 7 سنوات مضطربة سجل فيها 115 هدفا في 259 مباراة وقاد النادي إلى لقبين في الدوري الإيطالي.
لكن مارادونا المنضبط كان سيبقى في نابولي حتى منتصف التسعينيات.
خلال هذه الفترة الأطول، كان سيلعب حوالي 400 مباراة ويسجل ما لا يقل عن 200 هدف للنادي، ليصبح أسطورة لا تضاهى في تاريخ الكرة الإيطالية، ولربما كان سيحقق للنادي 5 ألقاب في الدوري الإيطالي و3 ألقاب أوروبية على الأقل.
المنتخب الأرجنتيني
مسيرة مارادونا الدولية الحقيقية شهدت 91 مباراة و34 هدفا، لكنها تأثرت بشدة بمشاكله الصحية والانضباطية.
في كأس العالم 1990، لعب بكاحل مكسور، ورغم ذلك قاد الأرجنتين إلى النهائي.
مارادونا المنضبط في كامل لياقته، كان سيفوز بذلك النهائي أمام ألمانيا الغربية دون أدنى شك.
في مونديال 1994، طرد بعد مباراتين فقط لتعاطي الإفيدرين، والأرجنتين خرجت ضعيفة أمام رومانيا.
مع الانضباط، كان سيقود بلاده للقب في الولايات المتحدة.
ولأن مسيرته كانت ستستمر حتى 2000، كان بإمكانه المشاركة في مونديال فرنسا 1998 في سن الثامنة والثلاثين، وربما إضافة لقب مونديالي رابع لخزانته، والتفوق على غريمه بيليه في التتويجات العالمية.
البالون دور
مما لا شك فيه أن دييجو لو كان منضبطًا، ولو واصل مسيرته بنفس البريق، لنال البالون دور مرارا وتكرارا.
فجائزة الكرة الذهبية لم تكن متاحة للاعبين من خارج أوروبا إلا بداية من 1995، ووقتها كان مارادونا قد عبر ذروة المجد وبدأ في السقوط.
تخيل فقط لو استمر حتى عام 2000 بجزء بسيط من عبقريته، كان سيجد الطريق مفروشًا أمامه لحصد أكثر من كرة ذهبية، خصوصًا أن مستوى المنافسة في تلك الفترة لم يكن يقارن بوهج مارادونا.
وبذلك كان قادرًا أن يُعيد صياغة التاريخ الفردي كما فعل مع التاريخ الجماعي.
أسطورة مكتملة بالنقصان
هكذا، في عالم بديل حيث اختار مارادونا طريق النور بدلا من الظلمة، كان التاريخ سيشهد على أسطورة مطلقة، عبقري بلا عيوب يجمع بين السحر والاحترافية، بين الموهبة الإلهية والانضباط البشري المثالي.
ولكن في الختام يبقى أن نشير إلى أنه ومع ذلك، فإن عظمة دييجو لم تأتِ فقط من الانتصارات، بل من هشاشته أيضًا.
فمارادونا لم يكن ملاكا منضبطا؛ كان بشرًا يخطئ ويصيب، وربما لهذا أحبه الناس بعمق، لأنه كان يشبههم، ولأنه خلق ليكون الأسطورة دييجو، العبقري المكتمل في الملعب، والإنسان الناقص في الظل.
"يلا شوووت (yallashooot.site)" هو موقع رياضي إلكتروني عربي متخصص في تغطية المباريات والبث المباشر لكرة القدم من مختلف أنحاء العالم، مع جدول محدث يوميًا، روابط مشاهدة متعددة الجودة، وأخبار رياضية دقيقة وحصرية.
إرسال التعليق